حول واقع و أفاق تنظيم الهندسة المدنية بالمغرب

مقال نشر بيومية “المساء” عدد 1572 بتاريخ 19/11/2011

تعتبر الهندسة المدنية من الأركان الأساسية للهندسة الوطنية، بفضلها تمكنت بلادنا من متابعة مسيرة التحديث و العصرنة و تمكن المهندس المدني المغربي من رفع تحدي بناء المغرب الحديث. فمنذ فجر الإستقلال تمكن المهندس المغربي بتعويض الخصاص و من تسيير المئات من الأوراش و المشاريع المتنوعة على إمتداد التراب الوطني. فعبر السنوات تمكن المهندسون المختصون في الهندسة المدنية المتخرجون أساسا من «المدرسة المحمدية للمهندسين» بالرباط ( إبتداءا من 1964 ) و «المدرسة الحسنية للأشغال العمومية» بالدارالبيضاء( إبتداءا من 1974 ) ، بالإضافة إلى المهندسين المغاربة المتخرجين من المدارس الأوربية، من توفير الأطقم اللازمة لمتابعة الأوراش التنموية من تشييد للطرق و القناطر و الأنفاق و بناء للسدود و الخزنات و إرساء أساسات البنية التحتية و الإشراف على بناء المدن بتجزيئاتها و عماراتها و منشئاتها و مساكنها المتنوعة. هذا التطور الحضاري و العمراني وهذه الأوراش العديدة التي يشرف عليها المهندس المدني تضع على عاتقه مسؤوليات جسيمة على رأسها ضمان سلامة و أمان حياة المواطنين.
فيما يلي محاولة لتسليط الضوء على دور المهندس المدني في مكاتب الدراسات التقنية و كذا ظروف الإشتغال و إشكالاتها، مع إقتراح  بعض النقط الكفيلة بتطوير المهنة و الرقي بها.

مهام المهندس المدني و أدواره:
يمارس المهندس المدني دوره عموما  من خلال مكاتب دراسات تقنية، وهي عبارة عن شركة “تجارية” يمكن أن تأخذ شكل شركة ذات المسؤولية المحدودة أو شركة مجهولة الإسم أو شخصية ذاتية.
و تتحدد مهام مكاتب الدراسات التقنية في ميدان البناء، بشكل أساسي، في انجاز دراسة هيكل البناية إستنادا إلى معطيات خاصيات التربة و ووفق المعايير التقنية الجاري بها العمل و خصوصا تلك المتعلقة بالمعاييرالمضادة للزلازل. كما يتولى المهندس  إنجاز قياسات أولية لتحديد تكلفة مختلف أجزاء المشروع و إنجاز دفتر التوصيفات الخاصة و كذا الإشراف على إنجاز و تنفيذ المشروع، و التأشير على مراحل وضع الخرسانة المسلحة  خلال مراحل الإنجاز. و في غياب هيئة مشرفة على القطاع، تجتهد بعض الجهات في وضع تصنيفات لهذه المكاتب، و يأتي على رأس هذه الجهات وزارة التجهيز و النقل التي تصنف المكاتب الدراسية  حسب المؤهلات البشرية و المادية لهذه المكاتب، حيث تصنفها حسب طبيعة النشاط إلى 18 صنف، ك«الصنف د 1» بالنسبة للعمارات و «د 2» للتجزيئات السكنية إلى أخره.

الإشكال المرتبط بتعريف صفة المهندس المدني:
هذا الإشكال مرتبط بالمنظومة القانونية التي تجاوزها الواقع و الممارسة، فالقانون «12-90» المنظم للقطاع لا ينص مطلقا على ما يعرف ب«مكاتب الدراسات التقنية» و يتحدث بالمقابل عن «المهندس المختص». أما ظهير 1947 (ﺝ. ﺭ. ﺒﺘﺎﺭﻴﺦ 3 ﺸﻭﺍل1368- 29 ﻴﻭﻟﻴﻭﺯ1949 ( المحدد لصفة «مهندس» فهو يتحدث بشكل عام عن صفة المهندس حيث ينص في فصله الأول على أنه: «ﻻ ﻴﺠﻭﺯ ﻷﺤﺩ ﺃﻥ ﻴﺘﺤﻠﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻐﺭﺏ ﺒﻠﻘﺏ ﻤﻬﻨﺩﺱ ﺇﻥ ﻟﻡ ﻴﻜﻥ ﺤﺎﺌﺯﺍ ﻹﺠﺎﺯﺓ ﻤﻬﻨﺩﺱ ﺭﺴﻤﻴﺔ ﺘﺴﻠﻡ ﺒﺎﻟﻤﻭﺠﺏ ﺇﻟﻴﻪ ﺇﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻐﺭﺏ ﺃﻭ ﻓﻲ ﻓﺭﻨﺴﺎ ﺃﻭ ﻓﻲ ﻤﺴﺘﻌﻤﺭﺍﺘﻬﺎ ﺃﻭ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﺩ ﺍﻟﻤﺸﻤﻭﻟﺔ ﺒﺎﻨﺘﺩﺍﺒﻬﺎ ﺃﻭﺒﺤﻤﺎﻴﺘﻬﺎ ﺃﻭ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﺩ ﺍﻷﺠﻨﺒﻴﺔ ﻭﻴﻜﻭﻥ ﻋﻠﻰ ﻫﺫﻩ ﺍﻟﺼﻔﺔ ﺍﻷﺨﻴﺭﺓ ﻗﺩ ﺴﺒﻕ ﻟﺩﻭﻟﺘﻨﺎ ﺍﻟﺸﺭﻴﻔﺔ ﺃﻭ ﻟﻠﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﻔﺭﻨﺴﻴﺔ ﺍﻻﻋﺘﺭﺍﻑ ﻟﻪ ﺒﻬﺎ . ﻭﻴﻜﻭﻥ ﺍﻟﻠﻘﺏ ﻴﺫﻜﺭ ﺒﺭﻤﺘﻪ ﺃﻭ ﻴﺸﺎﺭ ﺇﻟﻴﻪ ﺒﺎﻻﺨﺘﺯﺍﻻﺕ ﺍﻟﻤﻘﺭﺭﺓ ﺭﺴﻤﻴﺎ» .
و بذلك تكون ممارسة المهنة الهندسية غير مضبوطة بشكل واضح و متكامل و هي موزعة بين نصوص مختلفة لوزارة التجهيز و وزارة الإسكان و الأمانة العامة للحكومة كل بمنطقه الخاص فتنص تارة على «مكتب الدراسات التقنية» و تارة على «المهندس المختص» و تارة أخرى على صفة «مهندس» فقط.

المشاكل المرتبطة بشروط إنشاء مكاتب الدراسات التقنية:
قد لا يصدق القارئ العادي البعيد عن ميدان البناء، أنه بإستثناء مشاريع القطاع العام، أن إنجاز تصميم خرسانة لعمارة من خمسة عشر طابق، مثلا، في القطاع الخاص لا يخضع لأي مراقبة أو تحقق من صفة واضع التصميم، بإعتبار أن إنشاء مكتب دراسات تقنية لا يشترط على مؤسسه أن يكون مهندس مدني. حيث يبقي التخوف من المسؤولية التقنية هو الدافع الوحيد للإستعانة بالمهندس المدني المؤهل.
و هنا يسجل غياب جهاز مشرف و متتبع لصفة من يمارس المهنة، فمن الناحية النظرية تشرف الأمانة العامة للحكومة على منح التراخيص بالسماح بحمل صفة المهندس، إلا أن لائحة المهندسين الحاملين لهذه الصفة المنشورة رسميا من طرف الأمانة العامة للحكومة لا تتجاوز 195 مهندس فقط بينما يعد المهندسين المدنيين الممارسين بالآلاف.
كما أن المعايير الموضوعة من طرف وزارة التجهيز لتصنيف مكاتب الدراسات تعتمد فقط على ملف يصف الإمكانيات البشرية في لحظة معينة ، دون إمكانية تتبع واقع الممارسة مما يفتح الباب أمام توظيفات وهمية للمهندسين للحصول على تصنيف معين و الظفر بمناقصة معينة، بعيدا عن منطق التأهيل السليم و الدائم أو الاستفادة الحقيقية من الطاقات الهندسية. كما أن هذا التصنيف لا يشترط صفة المهندس المدني بالنسبة للمالك أو المسير. و بذلك يلحظ أنه في المشاريع الخاصة و خاصة الصغرى يكفي التوفر على ختم يحمل صفة مكتب دراسة كشرط لمباشرة المهام، مما يفتح المجال أمام أشخاص لا تتوفر فيهم المؤهلات العلمية اللازمة و الذين يمارسون عملهم بكل إطمئنان خارج أي مراقبة سوى تلك التي يثيرونها المهندسون المؤهلون أنفسهم. حيث تصل شكاياتهم حد رفع العديد من القضايا أمام المحاكم، كتلك المرفوعة حاليا  من طرف مهندس مدني بمدينة سيدي قاسم ضد مكتب دراسات يوقع تصاميمه شخص لا تتوفر فيه المؤهلات اللازمة في ظل صمت “مثير” للمجلس البلدي و السلطات الوصية.

الإشكال المرتبط بالمسؤولية داخل الورش :
رغم أن السلامة هي من صميم مسؤوليات المهندس المدني و رغم أن العادة القانونية في حالة كارثة تجعله المسؤول المباشر و الأساسي، إلا أن ذلك لا ينعكس على المسؤوليات خلال الأشغال. فهناك خلط واضح بين المسؤولية المعمارية و المسؤولية التقنية، مما يعرض أمن و سلامة المواطنين للخطر. و كمثال على ذلك أنه في حالة وجود إختلاف في تقييم سلامة الورش بين المهندس المدني  و المهندس المعماري فان رأي هذا الاخير هو الفاصل، رغم أن سلامة البناء و دعاماته هي من إختصاص المهندس المدني. كما أن «قانون التعمير 12- 90»  الذي يقنن عملية التعمير و البناء لا يشترط الحصول على موافقة المهندس المدني لمنح رخصة  السكن ( المادة 50 من الباب 3 من القانون السالف الذكر).كما لا يلزم اللجوء اليه أصلا في بعض الحالات ( المادة 54 من الباب 3 من القانون نفسه).
 و من المفارقات الأخرى أن الوكالة الحضارية لم تفرض الإ مؤخرا ضرورة إدلاء المنعش العقاري بشهادة تقر متابعة مهندس مختص لإنجاز الأعمال. إلا أن الشهادة السالفة الذكر، تبقى مجرد مسألة شكلية لأن لا شيء يمنع المنعش من الإستعانة بغيره فور الحصول على الرخصة دون ضرورة توقيع محضر تسليم و إبراء الذمة من طرف المهندس الأول، على عكس الحالة مع المهندس المعماري.
تبقى الإشارة إلى أن تصاميم الخرسانة لا توضع في أي مصلحة إدارية أو هيئة رقابية على عكس تصاميم المهندس المعماري الواجب وضعها لدى الوكالة الحضرية و الجماعة الحضرية، مما يعد إستخفافا واضحا بحياة المواطنين و سلامتهم البدنية.  

الإشكال المرتبط بتطوير المهنة و تنميتها
بالإضافة إلى طبيعة القضايا المرتبطة بالترسانة القانونية و تلك المرتبطة بالممارسة داخل الورش، فهناك إشكالات مرتبطة بتطوير المهنة و تنميتها. و يأتي على رأس هذه الإشكالات صغر حجم مكاتب الدراسات بسبب التعويضات الهزيلة، حيث أن حجم أغلب مكاتب الدراسات لا يتجاوز ثلاث موظفين، مما يحد من قدرتها على التطور.
كما أن هناك مشكل غياب محدد موضوعي و موحد لمنح الأتعاب، ففي القطاع الخاص أتعاب مكاتب الدراسات تمر من الضعف حتى عشرة أضعاف بالنسبة لنفس المشروع. مما يفتح باب المنافسة الغير الشريفة و وولوج مهندسين مزيفين. كما أن نظام المناقصات العمومية الذي يلجأ إلى معيار الأقل تكلفة عوض الأفضل عرض يفتح الباب إلى تكسير غير مقبول لتكلفة العروض.
بالإضافة إلى كل ذلك، هناك مشكل عدم حماية و دعم الهندسة الوطنية و السماح بتطويرها، حيث لا يوجد أي شرط حول ممارسة المهندسين المدنيين الأجانب لمهامهم داخل المغرب ، بخلاف المهندسين المعماريين حيث يشترط على نظرائهم الأجانب الدخول في شراكة مع المغاربة كشرط للممارسة داخل البلاد.

من أجل تطوير مكاتب الدراسات التقنية
إن المهندس المدني مطالب بالسهر على تصميم و تنفيذ كل ما يتعلق بالبناء و التشييد و هو دور كبير و أساسي يتطلب توفر الوسائل اللازمة للنهوض بهذه المهام، كما يتطلب إعادة الإعتبار إلى هذا الإطار الوطني و الإصغاء إلى مطالبه و تطلعاته و فتح نقاش جدي و مسؤول حول مختلف التحديات المطروحة. فتطوير دور مهام المهندس المدني يتطلب بداية  وضع حد للنزيف الحالي في القطاع عن طريق إشتراط «شهادة مهندس الدولة» في «الهندسة المدنية» كشرط لفتح مكتب دراسات، كما يطلب مراجعة المنظومة القانونية بشكل عام و إعتماد معايير جديدة تسمح بالتمييز بين المسؤولية المعمارية و المسؤولية التقنية و كذا التدقيق في تعريف صفة المهندس المدني و مكتب الدراسات التقني.
من ناحية أخرى، يجب إعادة النظر في نظام المناقصات العمومية التي تقود إلى تكسير فادح للتعويضات و بالتالي التأثير على الجودة و السلامة،  كما يتعين وضع نموذج للعقدة بين المهندس المدني و صاحب المشروع بشكل يضمن التنصيص على الأدوار و الإلتزامات الواضحة للطرفين.
و فوق كل ذلك يبقى مطلب تشكيل هيئة وطنية للمهندسين المدخل المنطقي و الأنجع لحل مجمل مشاكل المهندسين سواءا تعلق الأمر بالمهندسين المدنيين خصوصا أو المهندسين بصفة عامة.


ربيع الخمليشي
مهندس الدولة و فاعل نقابي و جمعوي في الميدان الهندسي
rabie.elkhamlichi@yahoo.fr

Leave A Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.