يظن كثير من الناس ان موضوع الابداع والابتكار وان كان مهما فهو يبقى ثانويا مقارنة مع مواضيع السياسة والاقتصاد والمجتمع. فهم يرون انه جميل ان يكون لدينا مخترعين نؤثث بهم المشهد ويساعدون في سياق ريادة الأعمال على خلق مناصب للشغل ويساهمون في تحسين صورة المغرب بالخارج. لكن الامر لا يعدو ان يكون موضة عابرة وإضافة قاصرة.
وحتى حين يتصدر المغاربة منصات التتويج عالميا ويحصدون الميداليات والجوائز الدولية كما حصل مؤخرا فان الامر لا يعدو خبرا مؤقتا وتكريما بسيطا ان حصل ويبقى بعيدا عن ملامح الافتخار الرسمي والشعبي بالمغنيين والممثلين والرياضيين.
بل هناك في ظل المواسم الانتخابية من يغتنم الفرصة ليثبت ان الامر نتيجة سياسات مهيكلة للدولة او ليركب على الموضوع ويشكو قلة الدعم القبلي وضعف التكريم البعدي لأصحاب هذه الجوائز والانجازات.
الابداع لغة هو انشاء شيء على غير مثال سابق. ولذلك وصف الله عز وجل نفسه في القرآن الكريم بانه (بديع السماوات والارض) فهو سبحانه خلقهن على غير منوال سابق. يقال كذلك ان الابداع هو 10% من الافكار و 90% من الاجتهاد. اما الاختراع فهو احداث منتوج علمي جديد او بطريقة مبتكرة. فيما يعبر الابتكار عن الاختراع حين يقترن بسوق. ولذا فان الابتكار قد يكون تكنولوجيا وقد يكون تصميميا كما يمكن ان يكون تسويقيا. وشركات مثل آبل او فيسبوك لم تخترع بالضرورة منتوجا جديدا بقدر ما ابدعت في التصميم والتسويق.
في هذا السياق لا بد ان نذكر ان الابداع والابتكار لم يعد اختياريا بل هو ضرورة ملحة ومحددة لنمو الشعوب واستمرار المقاولات وتقدم الدول. هناك امثلة كثيرة من شركات ماتت بسبب غياب او تأخر الابداع كنوكيا وكوداك وكومباك وكذا امثلة لدول تقدمت بفضل الابداع والابتكار ككوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة في آسيا وكينيا ورواندا في افريقيا.
في الثلاث سنوات الاخيرة أصبح فوز المغرب والمغاربة بجوائز وكؤوس و ميداليات في مسابقات عالمية واحتلالهم للصفوف الاولى ظاهرة متواترة ومتكررة حيث:
– حصد المغرب 8 ميداليات في مسابقة المخترعين الدولية من كندا وتوج المهندس المغربي انس كراما بميداليتين ذهبيتين. وهو مهندس من كلية العلوم والتقنيات بجامعة الحسن الاول بسطات.
– اختير المغرب ممثلا بالشاب عصام الدروي ومشروع المحطة الطرقية الرقمية Lagare.ma من العشر مشاريع الاولى افريقيا للمقاولين الشباب من طرف جائزة Aniszha.
– حصل المغرب في سنة 2016 على المرتبة الاولى عالميا في مسابقة ستارتب كاب Startup Cup العالمية للشركات الناشئة على يد عثمان البكاري و شركة Go Mobile. كما حصل على المرتبة الاولى عالميا في مسابقة Get In The Ring العالمية للشركات عل يد ياسين الفداني وشركة Lik. تجدر الاشارة الى ان المسابقتين تؤطرهما على الصعيد الوطني جمعية ستارتب المغرب.
– تمكن المغرب لسنتين متتاليتين 2014 و 2015 من الوصول الى الرتبة الثانية والثالثة عالميا في مسابقة ايناكتوس للمقاولات والمشاريع الاجتماعية عبر فريق ايناكتوس للمدرسة المحمدية للمهندسين.
– وفي سنتي 2015 و 2014 كذلك حصل المغرب على مراتب متقدمة في مسابقات عدة كالمرتبة الاولى إفريقيا والأولى عالميا في التطبيقات الصحية الذكية في مسابقة التطبيقات الذكية العالمية World Summit Award من طرف شركة ديال تكنولوجي Dial Technologies عبر تطبيق صحتك Sehatuk وجائزة الابداع الافريقية Innovation Prize for Africa التي حصل عليها الاستاذ عدنان الرمال عن مشروع حول المضادات الحيوية للحيوانات و مسابقة الابداع في المجال الفلاحي عبر شركة Agridata Consulting ومشروع البيانات الضخمة في المجال الفلاحي ابداع iBDA الذي صنف من بين المشاريع الخمسة الأكثر ابداعا في المجال الفلاحي عالميا.
هاته الانجازات ليست بالضرورة وليدة سياسات عمومية بنيوية (رغم ان هناك مبادرات حكومية تستحق التنويه) بل هي نتيجة مجهودات كبيرة لشباب وجمعيات تعمل في صمت ودون مقابل من اجل الصالح العام ومن دون ان تسلط عليها الاضواء. واذكر هنا جمعية ستارتب المغرب وفريقها الرائع من اداريين ومرشدين mentors والتي يراسها الشاب المتميز نوفل شامة وجمعية ايناكتوس المغرب وفريقها المتميز الذي يقوده الشاب المبدع عدنان العديوي وكذا جمعيات اخرى مثل ستارتب يور لايف و نيو وورك لاب وغيرها من الاطارات التي تعمل على تحفيز، تأطير ومواكبة الشباب المبدع. قصدت هنا ان اذكر الأشخاص والجمعيات والمدارس بالاسم تحية لهم على ما يقدمونه من مجهود مشكور وبذل في سبيل اعلاء راية المغرب. لا ننسى هنا كذلك الدور المهم تقوم به مؤسسة المكتب الشريف للفوسفاط في دعم هذه المبادرات ماديا ومعنويا.
ماذا يمكن ان نستنتج من هاته الإنجازات:
– اولا يجب ان يعرف السياسيون واصحاب القرار يقينا ان أهم وأعظم ثروة في المغرب هي شبابه. وهذه الثروة مغيبة ومهدرة بشكل كبير في الوقت الحالي. ولا ادل على ذلك من حشود الشباب المعطل او الراغبين في مغادرة الوطن. انها مسؤوليتنا جميعا ان نمنح الأمل والعمل لهؤلاء الشباب وان نفيد بهم ونستفيد منهم. اذن فاهم استثمار نقوم به واهم مجال حيوي نشتغل عليه هو تحرير طاقات الشباب ودعم مبادراته وتكريم انجازاته.
– من الضروري ان نؤمن بأن الابداع لا ينبت في تربة الجهل ولا يولد من رحم الراي الاوحد. فشرط الابداع الاساسي هو تحرير الارادات والافكار والخروج من المنطق النمطي ومن منطقة الراحة. لا يمكن ان ننتج ابداعا مع منطق الاستهلاك واقتصاد الريع كما لا يمكن ان نولد ابتكارا في ظل الاحتكار سواءا على صعيد السلطة او الاقتصاد.
– من المهم ان نحدث ميكانيزمات ووسائل لدعم الجمعيات والشباب ماديا عبر الاستثمار ومعنويا عبر الاعلام والمواكبة وهنا لا بد ان نخرج من المنطق الاداري العقيم ونبدع في الجانب القانوني والتدبيري لجعل هذا الدعم يصل ويحقق اهدافه. صحيح ان هناك برامج وطنية كتطوير ومساندة ولكنها تقبع تحت ثقل مسطري وبيروقراطي يفرغها من محتواها.
– يجب ان نستوعب ان تطوير حس الابداع وكفاءات الابتكار يبدأ بالتربية وفي المدرسة. وهنا اذكر قصة توماس اديسون وهو أحد اهم المخترعين في العصر الحديث وكيف ان أمه كانت سببا في تحفيزه وتعليمه رغم شكوى المدرسة منه لأنه كان مصابا بمرض الديسليكسيا. في سياق نظامنا التعليمي المتأخر عالميا تقوم المدرسة بقتل الابداع واغتيال الابتكار كل يوم وتكرس التفكير النمطي عوض التفكير خارج الصندوق. من الواجب اذن ان نجعل من التعليم والتربية اهم قطاع في الدولة كما فعلته سنغافورة مثلا التي تحتل حاليا مراكز متقدمة في مجالات التعليم والإبداع والاستثمار عبر العالم.
– معظم الشباب المتوج عالميا نهلوا من النموذج الانجلوسكسوني عوض النموذج الفرنسي في مجالات التعلم والبحث العلمي والمقاولة. هنا لا بد ان نفهم ان اصرار الدولة على تبني النموذج الفرنسي يحكم علينا بالتخلف في كثير من المجالات ومنها البحث العلمي والابتكار. لا بد ان تكون لنا الشجاعة للتحرر من نموذج اثبت ضعفه وفشله.
– لا بد ان نتجاوز مرحلة تكريم وترميز المغنيين الذين يساعدون على تخدير الشباب والمجتمع الى مرحلة تكريم العلم واهله والمبدعين والمخترعين ورواد الأعمال شعبيا ورسميا لنعطي المثال للأجيال القادمة مع الدعم المباشر والمستمر.
– ان ندعم تنظيم المسابقات الوطنية ونحضر المسابقات الدولية في شتى مجالات الابداع والابتكار. وهنا اذكر مسابقة InnovIT الوطنية للابتكار في مجال تكنولوجيا المعلومات التي اشتغل في الفريق المؤسس لها والتي تنظمها جمعية مستعملي تكنولوجيا المعلومات AUSIM للموسم التاسع. ورغم المجهود المبذول من الجمعية ومن فريق المتطوعين المؤسس الا ان المسابقة تحظى بدعم ضعيف ومحدود.
ان الابداع والابتكار من شانهما تعبيد الطريق لمستقبل زاهر للوطن تجد فيه الأجيال الجديدة مجالات للتعبير والمساهمة في الانجاز دون تضييق او اهدار تواكبها في ذلك الأجيال السابقة ومؤسسات الدولة والشركات المواطنة لنبني جميعا غدا أفضل بإذن الله.