مقال نشر بجريدة الصباح عدد 2233 بتاريخ 15/06/2007
مما لا شك فيه أن المغرب يواجه تحديات ضخمة تمليها اعتبارات داخلية و إكراهات خارجية، و ذلك ما حذا بمحرري التقرير الخمسيني إلى وصف المغرب بأنه في مفترق الطرق. و أن تغليب طريق التأهيل و البناء يتطلب توفر إرادة قوية وتأهيل موارد بشرية كافية كفيلة برفع التحدي. في هذا السياق جاءت المبادرة الحكومية بتكوين 10000 مهندس سنويا انطلاقا من سنة 2010 كترجمة لهذه الإرادة بتوفير الرأسمال البشري التقني والعلمي اللازم لتحقيق الإقلاع والتنمية.
من حيث المبدأ لا احد يمكنه أن ينكر أهمية قرار تخريج أعداد إضافية من المهندسين والمتخصصين ، ولكنه في الآن ذاته يفترض أن مثل هذا القرار قد اخذ بعين الاعتبار ما يكفي من المؤشرات والمعطيات التي تجعل منه قرارا تاريخيا قادرا على خلق طفرة نوعية في التعليم الهندسي الوطني من خلال نقل عدد المهندسين المتخرجين سنويا من 1945 إلى 10.000.
غير أن الإطلاع على تفاصيل المبادرة تظهر إلى أي مدى يمكن أن يؤول المشروع إلى عكس ما يصبوا إليه ، وذلك من خلال ما يشكله من خطورة بالغة على جودة ومصداقية التعليم الهندسي . من خلال النقط التالية سنحاول ملامسة بعض جوانب المبادرة التي تطرح العديد من علامات الاستفهام سواءا من حيث المؤشرات التي اعتمد عليها كأساس للمبادرة أو المنهجية التي اعتمدت لأجرئتها.
ارتكز المشروع على مؤشرين أساسين ومحوريين ، الأول يظهر الارتفاع المطرد لوثيرة نمو الا قتصاد المتعلق بترحيل المهن (les métiers d’Offshoring) و ميدان التقنيات الجديدة للمعلوميات و الاتصال( 1) وما يتيحه ذلك من مجال لتأهيل أعداد كبيرة من الشباب المغربي . أما الثاني فيبين نسبة المهندسين بالنسبة لعدد السكان ، فهذه النسبة لا تتعدى بالمغرب 10000/9 بينما تصل في اليابان إلى 10000/ 5402) (، مما يعني أن أوراش التنمية مازالت في حاجة إلى أضعاف أضعاف العدد الحالي من المهندسين.
بالنسبة للمعطى الأول الذي يبين ويؤكد ضرورة تخريج اطر قادرة على سد الحاجيات البشرية في ميدان ترحيل المهن ، فالمقاربة قد تكون صحيحة إذا كان الأمر يتعلق ببرنامج قطاعي يهدف تنمية هذا الجانب من الاقتصاد ، لكن المشكلة أن المشروع يقدم نفسه كبرنامج استراتيجي لإصلاح المنظومة التكوينية الهندسية. في هذا الإطار نتساءل عن آفاق باقي فروع التخصصات الهندسية من هندسة كهر بائية ، وصناعية ، ومدنية ، وميكانيكية والتي تم المرور عليها مر الكرام ، فهذه الفروع الهندسية هي في الحقيقة حجر الزاوية في تأهيل الصناعة الوطنية، وتغييبها كان نتيجة مباشرة لإغفال النسيج الاقتصادي المحلي من معادلة 10000مهندس . فلا احد من معدي المبادرة صرح أو لمح انه تم رصد حاجيات الاقتصاد المحلي عبر سبر أراء الفاعلين الاقتصاديين وأرباب المقاولات الوطنية وتمثيلياتهم و إشراكهم في بلورة المشروع ، وبذلك تكون الاستراتيجية الهندسية الحالية قد أغفلت الشق الأهم المتمثل في النسيج الاقتصادي المحلي الذي يعد القاطرة الحقيقية المضمونة والمستقرة للتنمية المستدامة.
من ناحية اخرى فالمؤشر الثاني الذي اعتبرته المبادرة أساسيا هو الآخر، فيتمثل في نسبة المهندسين بالنسبة لعدد السكان وما يعني ذلك من ضرورة رفع عدد المهندسين إلى مستويات أعلى قادرة على بعث عوامل النهوض الاقتصادي.
ظاهريا، تبدوا النسبة المقدمة سالفا منطقية ومبررا كافيا لمضاعفة جهود تخريج المهندسين، ولكن حقيقة شروط الإسهام الايجابي للمهندس في التنمية هي بالتأكيد اعقد من أن تختزل في هذا المؤشر البسيط ، فتقرير المبادرة لم يقدم لنا أجوبة عن توزيع المهندسين الحاليين ، وعن نسبة المهندسين بالنسبة لعدد الوحدات التقنية ، وعن نسبة المهندسين بالنسبة للوظائف التقنية الأخرى ، وعن نسبة المهندسين بالنسبة لباقي حاملي الشهادات العليا. كل ذلك كان سيبين إلى أي حد أن رفع عدد المهندسين المتخرجين خمس مرات خلال هذه المدة القصيرة، لا يمكنه إلا أن يكون جرعة مبالغ فيها ستأتي على حساب جودة التكوين أولا وعلى حساب سوق الشغل وطبيعة الوظائف المزاولة ثانيا.
هذا من حيث المنطلقات التي ارتكزت عليها المبادرة، أما طريقة تدبيرها فهي لم تسلم بدورها من التسطيح و الارتجال، و كتدليل على ذلك نسوق مثالين اثنين:
الأول يهم اللبس الذي اكتنف الرقم 10.000 ، فهاجس الوصول إلى هذا الرقم فتح الباب على مصراعيه لإقحام تخصصات ومهن لا علاقة لها بالهندسة لا من قريب ولا من بعيد ( 3). فالأكيد أن بناء مغرب القرن 21 لا يمكن تحميله نفس المنهجيات وأشكال التدبير التي كانت في وقت من الأوقات سببا في إفقاد العديد من المشاريع نجاعتها ،
فتوسيع دائرة المعاهد والمؤسسات التي تمنح شهادة الهندسة إلى مؤسسات تغيب فيها أدنى الشروط الموضوعية (4) ،
كتوفر هذه المؤسسات على حد أدنى من الحصص المخصصة للمواد العلمية الأساسية كالرياضيات والفيزياء العامة وكافتقارها إلى الأطر العلمية التقنية المتخصصة القادرة على الإشراف على تكوين مهندسين أكفاء وكذا غياب الوسائل البيداغوجية والمختبراتية الضرورية لتكوين المهندس بالمعايير المتعارف عليها كونيا. مما يدفعنا إلى التساؤل عن نوعية المهندسين التي نريدها لمستقبل بلادنا.
أما المثال الثاني فيخص مسائلة تغييب تمثيليات المهندسين بصورة مطلقة عن هذه المبادرة. إذ تعتبر طريقة تدبير الحكومة لهذه المبادرة نموذجا متفردا في هذا الإطار. فالمبادرة لا تتعلق برفع وثيرة إنتاج مادة طاقية أو منتج فلاحي، بل الأمر يتعلق برفع نسبة تخريج موارد بشرية تنتمي إلى فئة مهنية معينة. وربما هذه هي المرة الأولى في تاريخ المغرب التي يتم التعامل فيها بكل هذا التجاهل مع ممثلي مهنة معينة فيما يخص قضية مصيرية تهم مستقبل مهنتهم بالدرجة الأولى.
فمن المعروف أن المهندسون ينتضمون في العديد من الجمعيات والقطاعات التي تعنى بالمهنة الهندسية وتشتغل على قضاياها منذ سنوات طويلة ، هذه التمثيليات التي تضم آلاف المهندسين لم يتم إشراكها ولو من باب الاستشارة في مشروع من المفروض أنها طرف أساسي فيه بحكم الواقع .
كل هذه الملاحظات و الأمثلة توضح إلى أي مدا يمكن لمشروع طموح وجبار أن يسقط في شرك الارتجال والقرارات المتفردة والمزايدات السياسية التي طالما ضيعت على بلادنا فرص بناء برامج طموحة وعقلانية في الآن ذاته. كما يتضح جليا هن مشروع مبادرة 10000 مهندس بشكله الحالي هو مشروع للإجهاز أولا و أخيرا على جودة المهنة و مصداقيتها.
ربيع الخمليشي
مهندس الدولة – باحث و فاعل جمعوي
(1) انظر الصفحة 17 و 18 من كتيب” تكوين المهندسين بالمغرب”(formation d’ingénieurs au Maroc : Etat des lieux et perspectives de développement)- المبادرة الحكومية 10000 مهندس – دجمبر 2006
(2) انظر نفس المصدر
(3) انظر كتيب” تكوين الهندسة بالمغرب”(formation à l’ingénierie au Maroc : Fiches synoptiques des établissements de formations d’ingénieurs)- المبادرة الحكومية 10000 مهندس – دجمبر 2006
(4) انظر نفس المصدر